أستاذ البصيرة : وجودي في السّجن طبيعي، ويُشعرني بالارتياح
كانت السّيارة في سباقٍ مع الطّريق. الوجهة: البلدة التي تمثّل مفتاحاً إلى عاصمة الثّورة. بلدة النّويدرات. استدارت السّيّارة حول دوّارها الكبير، وانعطفت – بشغف – باتجاه مدخلها. هناك موقع “راية العزّ”. تتمركز قوّات المرتزقة كالعادة. الموقع مُحاط بحواحز اسمنتيّة صفراء، ويمزاجها سوادٌ يُذكّر المارّة بأدوات الدّفاع المقدّس. بعده بأمتارٍ قليلة، تشخصُ البقعة التي جلس عندها مفجّرُ الثّورة، فجر الرّابع عشر من فبراير عام 2011م، مواجِهاً المرتزقة، ومُعلناً افتتاح طريق الحرّية.
الشّارع الممتد إلى داخل القرية ممتلئ بالحواجز. كما هي شوارع البحرين التي تشهدُ المواجهات بشكل شبه يومي خلال العامين الماضيين. هناك، كان اللّقاء التاريخي بين “أستاذ البصيرة” والحشود البشريّة. ينعطف الطريق ليقودك إلى ساحةٍ صغيرة، حيث يرتفع منزلٌ قيد الإنشاء. في وسط المنزل، تسطعُ نافذة شهدت يدَ “القائد” وهي تلوّح للجماهير.
في الجانب الأيمن من المبنى، يمتد زقاق متواضع، حيث يركن باب منزل “الأستاذ”. يطلّ علينا ابنه. استقبلنا بالسلام. يتكرّر الاعتذار عن إجراء أية مقابلة صحفيّة. أدخلنا إلى المجلس الذي كان تأسّس على إستراتيجيّة الانتقاد العلمي الهادف. استقبلنا الأستاذ بحرارة معهودة منه. جسده كان أكثر نحولا من ذي قبل، والتعبُ بادٍ على ملامح وجهه. لكن شيئاً من ذلك لم يُغيّر من ابتسامته وبشاشته المفتوحة على محبّة الجميع.
اقتربنا منه، بعد انصراف الضيوف والمعزّين. كان حازماً: “من الأفضل ألا يتدخّل منْ هم في السّجن في شئون السّاحة”. كان موقفاً معروفاً. ليس من الحكمة إصدار المواقف والقرارات من غير الإلمام بكلّ ما يدور في السّاحات والدّهاليز.
كانت الرّغبة عارمة في الاستماع إلى كلامه وأحاديثه، ولو بعيداً عن الشّأن السّياسي، حيثُ قضايا الرّوح والعقل.. والمعاناة.
عزلة السجن
يقول الأستاذ: “في السّجن، تمّ تفريغ العنبر لنا بشكل كامل، وهذا من أجل عزلنا عن باقي السجناء، فلا نختلط بهم، ولا يختلطون بنا، فنحن في عنبر مُخصّص لنا، والأبواب فيه مفتوحة على بعضها البعض، لدرجة أن بعضنا ينام في زنزانته الخاصة”.
يضيف: “في مسألة الرّعاية الطبية، تُفضّل إدارة السجن أن تأتي بالطبيب لنا، إلى حيث نكون، عوضاً عن أخذنا إلى المستشفى، وحينما يتمّ أخذنا إلى عيادة السجن؛ فإنه يتم تفريغها بشكل كامل من باقي المساجين، ولكن بعض الفحوصات الخاصة تتطلب أخذنا إلى المستشفى، وحين يتمّ ذلك تتقدّمنا الشرطة من أجل تفريغ الممرّات من المرضى، ويدعونهم للعودة إلى غرف العلاج لكي لا يرانا أحد”.
زي المعتقلين الجنائيين
قال: “التضييق الذي يتم ممارسته علينا حالياً هو من أجل إرغامنا على ارتداء زي المعتقلين الجنائيين، ولكننا لا نقبل بذلك أبداً، فنحن سجناء رأي، ونحن كنا نرتدي ملابسنا العادية طيلة فترة الاعتقال، ودون أن يبدي أحد اعتراضه على ذلك”.
الوضع الصّحي
وبشأن حالته الصّحيّة، يقول الأستاذ: “حالتي الصّحيّة تحسّنت كثيراً. لقد مرّت حالتي بأوضاع متدهورة، وبآلام تشبه تلك التي مررت بها قبل سفري للعلاج، ولكن – ولله الحمد – فإن صحتي بعد ذلك تحسّنت”. ويُعلّل تدهور صحّته بـ” سوء الرعاية الصّحيّة، والإهمال الذي نتعرّض له” عمداً من قِبل إدارة السّجن.
يُفصّل الأستاذ بعض الأمور المتعقلة بحالته ويقول: “في بداية اعتقالي، في الفترة التي قطعونا فيها عن العالم، مررتُ بحالات من التعب والتشنجات، ولكنها كانت متفاوتة، باستثناء الفترة التي سبقت وفاة والدتي، بأسبوع تقريباً، حيث طرأت عليّ آلام الجسم المتعلقة بمرض “التهاب الأعصاب”، الذي كنتُ أتعالج عنه في لندن”. ويضيف بأن الأمور وصلت إلى مستوى مخيف، ففي الليلة: “التي نُقلت فيها إلى المستشفى العسكري؛ بقيت عصر ذلك اليوم ساعة ونصف طريح الفراش، لا أستطيع تحريك جسمي، مما اضطرّ زملائي في السجن إلى أن يطلبوا نقلي إلى المستشفى، وقد تمّ نقلي إلى المستشفى العسكري مساءً، وعُرضت على طبيب عام، ولم يُشخّص حالتي، إلا أنه عند سؤالي عمّا أشعر به، قلت له بأني اشعر بنفس الأعراض التي شعرت بها في العام ٢٠٠٥ عن مرض التهاب الأعصاب. وعليه ربما يتم عرضي الأسبوع القادم على طبيب أخصائي في العسكري، أو يتم تحويلي إلى الدكتور الذي عاين حالتي في مستشفى السلمانيّة”.
الحالة الصحية للأستاذ حسن مشيمع
سألناه عن الوضع الصحي للأستاذ حسن مشيمع، حيث تناقلت الأنباء عن تدهور صّحته باستمرار، فأجاب الأستاذ: “وضع الأستاذ حسن جيد، ولكن هناك مخاوف فعليّة من عودة المرض، فالورم الخبيث تمّ استئصاله بنجاح، ولكن توجد احتمالات كبيرة لعودته، وهذا يتطلب أن يتم إجراء الفحوصات الطبية اللازمة له بشكل دوري منتظم، وهذا غير متوفر حاليا”.
وجودي في السجن طبيعي جداً
طرحنا أسئلة حول تجربته الأخيرة في السّجن. ومن بين ما ذكره لنا: “وجودي في السّجن طبيعي جدّاً، ويُشعرني بالارتياح، ولو لم أدخل السّجن لكان الوضعُ متعباً بالنسبة لي”. يوضّح ذلك بالقول: “وسط كلّ هذا الظلم الذي يتعرّض له الناس؛ يكون الوضع الطبيعي أن يدخل الإنسان الحرّ إلى السجن، ويكون غير الطبيعي أن يكون خارجه”.
ويشير الأستاذ ممازحاً إلى أن أحد الضّباط قال له: “إنّي أقلّ الموجودين مشاكسة” من بين بقية الرموز المعتقلين، مضيفاً – من باب الطرفة – بأن “سماحة الشيخ عبدالهادي المخوضر هو من أبرز منْ يرفع المطالب الخاصة بتحسين أوضاعنا”، ويدخل في “اشتباك” مع المعنيين بسبب ذلك.
السجن والإمام الكاظم (ع)
سألناه عن التجربة الرّوحيّة التي يعيشها داخل السّجن، في إطار المقارنة مع تجربة أحد الأئمة، وهو الإمام موسى الكاظم (ع) الذي مرّ بتجربةٍ مريرة في السّجون. قال الأستاذ: “لم تتغيّر علاقتي بالإمام الكاظم (ع)، فهي ليست تجربتي الأولى في السجن، نعم.. أستحضر تجارب جميع أهل البيت (ع)، ولكن تجربة الإمام الكاظم (ع) هي أكثر تجربة أستحضرها”.
يقول: “منْ يتعلّق بالأشياء فهي متحركة، وأوضاعه تتغيّر بتحرّك هذه الأشياء، أمّا منْ يتعلق بالله؛ فالله ثابت، ولهذا لا يتغير وضعه بتغيّر الأمور، وأنا عندي أن وجودي داخل السجن مثل بقائي خارجه، وحرّيتي مثل وجودي في القيد”.
ويستذكر في هذا الصّدد الموقف التّالي: “سألني في يومٍ ما أحدُ الضّبّاط الملثمّين: كيف حالك؟، فقلت له: “هل تريد الحقيقة بكلّ صراحة؟”، فقال: “نعم… تكلّم”. فقلت له: “أنتم سجنتم جسدي، أمّا عقلي وروحي وتفكيري فلا سلطة لكم عليها”. فقال: “هذا واضح”، ثم انصرف من دون أن يزيد شيئا من حديثه”.
الخروج للعزاء، ولهفة الرّموز
خروج الأستاذ المؤقّت من السّجن بعد وفاة والدته لم يكن طبيعيّاً. يقول: “خروجي من السجن لعزاء والدتي لم يكن بالأمر السهل، ومنذ وفاتها – رحمة الله عليها – تمسّكتُ بحقّي في تشييعها، وكنتُ بشكل يومي أكتب رسائل لإدارة السجن، والمفتّش العام، والنّائب العام، وقاضي تنفيذ العقاب؛ أخبرهم بأنّي مصرٌّ على حقي الشرعي والقانوني في ذلك، ولولا هذا الإصرار لما خرجتُ للعزاء”.
يضيف: “خروجي من السّجن مؤقتاً انعكسَ إيجابيّاً على زملائي، وارتفعت معنوياتهم بشكل كبير جداً، ولم يكن الأثر الإيجابي على الجماهير فقط، حتى أنهم في يوم التشييع رتّبوا اتصالاتهم من الساعة الخامسة وحتى الساعة الثامنة لكي يتلقوا أخبار خروجي أولاً بأوّل”. يقول الأستاذ: “عند عودتي إلى السجن؛ تلقاني زملائي بشغف، وكانوا يطلبون -بحرارة- أخبار التشييع، والأخبار المتعقلة بالجماهير، وذلك إلى درجة أننا بقينا من الساعة الحادية عشر مساء وحتى الثالثة فجراً نتبادل الحديث حول ما جرى في الخارج أثناء فترة العزاء”.
يُشار إلى أنّ الأستاذ عبدالوهاب هو الوحيد -من بين بقية الرموز- الذي لم يُعاود الاتصال هاتفياً بأهله، وحول ذلك يقول: “أنا ما زلتُ متمسّكاً برأيي. هناك مضايقات كثيرة تمارسها إدارة السّجن علينا، ومنها حريّة الاتصالات، حيث الرّقابة والتحكّم فيما يُقال أثناء الاتصال، وقطع الخط أحياناً على المتصلين، كلها أمور مرفوضة عندي، وتجعلني أرفض أن أستخدم حقّي في الاتصال بالأهل، ما دامت حريّة الاتصال محجوبة”.
عودة الزيارة
يؤكّد الأستاذ بأنّ معاملة إدارة السّجن تغيّرت كثيراً، “وقد بدأوا في التّضييق علينا تدريجياً”. وبشأن عودة الزيارة مجدّداً، يقول بأنّ “إدارة السجن تريد فرض زي السّجناء الجنائيين، ونحن نرفض ذلك، وهم منعوا حقّنا من الزيارة، ولذلك نحن -وكلّ الرّموز- متمسّكون برأينا رافضين هذا اللباس”.